إذا كان لكل واحد منا في حياته قدوة يفتخر بها فقدوتي هو والدي رحمة الله عليه.
لكن أولا دعوني اعرفكم عليه: كان إنسانا أمي لم يلج أبدا المدرسة و ما كان يعرف لا القراءة و لا الكتابة.
كان وسيما و أعتقد أنني كنت اشبهه في صورة وجهه في شبابي لأنه توفي مند 36 سنة و لم يكن وصل الى سني الحالي لذلك لا يمكنني أن أحدد كيف كان من الممكن أن تكون ملامحه فيما بعد.
عرفت عليه أنه كان مستقيما ، شغالا ، فلاحا بسيطا و عصبيا بعض الشيء و كنت في صغري ألاحظ بعض حالات عصبيته عندما كانت البهيمة التي كان يجر بها عربة دات إثنين تم أربع عجلات فكان يفرغ جام غضبه عليها.
كان قليل الكلام و لا يخالط الناس كثيراً إلا المقربين منهم أو في المناسبات.
كان يصر على أن أتعلم لذلك ذهب بي إلى المدرسة في سن السادسة من عمري مع العلم أنه في ذلك الوقت لم يكن هناك سقف زمني لدخول المدرسة لأن عدد التلاميذ كان قليلا و كانت هناك رغبة رسمية في نهاية الستينات إلى جلب عدد أكبر من أبناء الارياف و تشجيعهم على التمدرس.
مع منتصف السبعينات اتممت دراستي الأساسية و مع غياب مؤسسة للتعليم الإعدادي تم الثانوي كان علي الرحيل الى المدينة و عمري لم يتجاوز 12 سنة حيث اكتشفت اضواءها و شوارعها لأول مرة بعدما كنا نستنير في البادية بمصباح يشتغل بالزيت أو الغاز.
بدأت رحلة جديدة تخللتها مطبات كثيرة و لطمات الأمواج مرة ترميني في هذا الإتجاه و مرة في إتجاه آخر و ما كنت ازور عائلتي إلا في العطل المدرسية و التي غالبا كانت ثلاثة في السنة: اثنتان منها خلال الموسم الدراسي و الثالثة مع إنتهاء الموسم الدراسي و كانت هي الأطول لأنها كانت تدوم حوالي ثلاثة أشهر.
المهم أن والدي رحمة الله عليه عندما رأى أنني أصبحت أهلا للنصيحة بحكم عمري كان يوصيني دائما بالاهتمام بدراستي و عدم الانجرار وراء بعض سلوكيات الشباب في السبعينات و بداية الثمانينات.
و في مرة عندما أحس أنه نصيحته ربما صارت مملة لي أراد أن يغير الأسلوب فقال لي: إذا كنت الح عليك لكي تتشبت بالدراسة فلكي يكون لك وضع اجتماعي أحسن من وضعي و ما أقوم به لمساعدتك في هذا الباب لا أنتظر منك مقابلا عليه فأنا لا أريد منك أن تشتغل لتصرف علي بل إذا تعلمت و حصلت على عمل محترم فاعفاؤك لي من مسؤولية مساعدتك هو عطاء لي في حد ذاته.
كانت تلك الكلمات وازنة لكني لم اعرها الاهتمام الذي كانت تستحق وقتها لأن عقلي كان مشغولا.
مع الوقت انتقلت إلى الجامعة في منتصف التمانينات و كنت مثل كثير من الشباب المولع بالحلم الأوروبي قضيت بها أربع سنوات اتنقل من شعبة أو تخصص إلى تخصص آخر بحثا عن نفسي نتيجة التيه الذي كنت فيه و تخللت الأربع سنوات ثلاث سفريات إلى الخارج بحثا عن فرصة للدراسة هناك لكن بدون جدوى لعدم وجود مساعدة من طرف من له معرفة بفترات طلب التسجيل بالجامعة الأروبية و السفريات قمت بها خلال عطلة الصيف بمعنى أن الإدارات في عطلة إلا واحدة كانت خلال الموسم الجامعي لاجتياز مباراة هناك.
توفي والدي رحمة الله عليه و كان السند الوحيد الذي لم أعرف قيمته إلا بعد رحيله و كانت وفاته سببا في توقفي عن الدراسة من أجل البحث عن عمل و هو ما حصل بالفعل بعد عام عانيت فيه كل أصناف المعانات النفسية و المادية فاكتفيت بوظيفة بسيطة لكي أضمن لقمة عيش و لو كانت مبللة بالدم و العرق و تدرجت فيها إلى أن احلت على المعاش في 2018 .
بمجرد التحاقي بالوظيفة اكتشفت سر اصرار والدي رحمه الله على التعلم و التميز فيه و نيل الشواهد لأنني لاحظت أن الإدارة لا تعترف بما تحمل معك من علم أو ذكاء بل تطلب منك شهادة فقط أي ورقة توضع في ملفك الوظيفي و لا يهم مؤهلاتك.
هنا قررت العزم على أن أعود إلى صفوف جيش المتعلمين و تحقيق حلم والدي الذي لم أتمكن من تحقيقه في حياته و بقيت على هذا الحال لم افارق الجامعة إلا قبل بضعة أشهر من احالتي على المعاش.
قضيت ما يقرب من 28 سنة تنقلت خلالها بين ثلاث جامعات على الرغم من كل الاكراهات التي اعترضت طريقي لدرجة أنني في وقت من الأوقات كنت اسافر للدراسة خلال عطلة نهاية الأسبوع من المدينة التي اسكن بها إلى مدينة أخرى تبعد بأكثر من 200 كلم و كانت تلك السنوات مليئة بالفوائد و التجارب معا و حفظتني من السعي وراء جمع المال بكل الطرق .
و مع كل هذا تبقى لكل حصان كبوة…
أتمنى أن تكون هذه الذكرى على روح والدي بردا و سلاما عليه أينما كان و لا أملك له إلا الدعاء بالرحمة والمغفرة و أن ألقاه إن شاء الله عند رب العالمين في أحسن حال.