المغرب: جاهلية النظام وصناعة الأصنام
فريد بوكاس ، صحفي باحث و ناشط سياسي
كثيرون هم من يرددون كلمة المخزن ، ولعلهم يناضلون ضد استبداده دون فهم حقيقي لفحواها ، ومنهم من يسمعونها فيسقطونها على كل من يرتدي بذلة رسمية. المخزن في الواقع المغربي المشمول بالاستبداد يتمثل في تحالف غير رسمي بين الملك المستبد ومستشاريه ، وثلة من رجال الأعمال النافذين ، والبيروقراطيين ، والإقطاعيين وأغلبهم من جنرالات الجيش ، وكبار زعماء القبائل . هؤلاء هم صناع القرار على أرض الواقع المغربي ، المنزهون عن القانون ، الذين لا يخضعون إلى المساءلة ولا ينتخبون بل يعينون بظهائر ملكية ، هم الحكومة الحقيقية ، أما الذين تحت قبة البرلمان فليسوا سوى طابع مطاطي لما يقرره المخزن . وإذا كان للمخزن المغربي مرادف فهو الفساد والاستبداد لأنه يقوم مقام المؤسسات التي يصنعها خيار الشعب في دول الحق والقانون ذات الباع الطويل في الديموقراطية والعدالة.
بادئ ذي بدء ، يبدو للمتتبع للحراك في المغرب أن النظام المخزني لم يع بعد تماما خطورة المرحلة التاريخية التي يمر منها ، ومازال يخطط لخروج الملك على الناس ليتبرع بالدم ويدشن دور الحضانة والأيتام وتوزيع قوالب السكر وقنينات الزيت على المعوزين في زمن لم يعد يخفى عن الشعب كم يكلفه الملك المستبد . ولا بد لنا في هذا السياق أن نسمي الاستبداد بأسمائه ، وننعته بأصحابه دون وجل أو استتار وراء الألفاظ لأننا مسؤولون جميعا قراء وكتابا على قول كلمتنا أمام الله والتاريخ ، ونحن نعيش هذه المرحلة الأهم في تأريخ بلادنا منذ 1666 ، قبل أن يأتي يوم تحاسبنا فيه الأجيال القادمة.
هذا المخزن لم يتغير رغم قدم المصطلح نفسه ، ورغم الدستور الجديد الممنوح الذي تشدقت به أفواه المخزنيين والموالين لاستمرار النظام الاستبدادي الملكي تحت ذريعة «حماية الدين والوحدة الترابية وصيانة النسيج المجتمعي المغربي وضمان الاستقرار والأمن »، ورغم صحوة الشعوب في الربوع المجاورة والقاصية . لكن المثقفين والطلبة وأبناء الشعب وبناته عموما يعلمون أن تلك ديماغوجيات كثيرا ما استعملها المخزن لتخويف الناس من التغيير.
والمخزن ذاك ليس وليد اليوم بل قديم قدم الدولة العلوية ، ولم يغب نفوذه أيام الاستعمار ، بل إن الحكم الفرنسي قد حافظ على هياكل النظام المخزني التقليدية مع تشكيل دولة حديثة إلى جانبه ، وكان ذلك عاملا ميسرا لاحتلال المغرب وفرض الوصاية عليه. وفي نص معاهدة الحماية لسنة 1912 دعت فرنسا جليا إلى حماية الدولة المخزنية واحترام هيبة السلطان وتعهدت ب”مساندة صاحب الجلالة الشريفة ضد كل خطر يمس شخصه الشريف أو عرشه أو ما يعرض أمن بلاده للخطر. المساندة تشمل أيضا ولي عهده وسلالته.
ولقد ابتعد المخزن اليوم قليلا عن ماضيه ما قبل الاستعمار ، وعمل على وضع نظامين للحكم: واحدا يحافظ فيه على هياكله السياسية التقليدية اللازمة لضمان استمرار شرعية الملكية المستبدة ، وآخر جعل له واجهة ملكية دستورية قام فيه بتحديث المؤسسات شكلا. واستغل المخزن الرموز الدينية ، فالملك هو الإمام ، وأمير المؤمنين ذو الصلاحيات غير المحدودة. هذه الرمزية الدينية تمكنه على الصعيد الاجتماعي من التكيف مع جميع الظواهر ليصبح عامل التماسك الوطني. وقد أدى هذا التركيب بين ما هو تقليدي ومعاصر في المغرب إلى مأسسة الخطاب السياسي.
خلال فترة محمد السادس ، خلق المخزن آليات للتلاعب السياسي بحيث يبقى الملك على المستوى السياسي القوة الوحيدة الثابتة بينما كل القوى السياسية الأخرى عابرة وآيلة للزوال. أما على المستوى الاجتماعي فيستخدم المخزن الرمزية الدينية خلال الأعياد الدينية وشهر رمضان وخطب الجمعة في المساجد والأعمال الخيرية للتكيف مع التغيرات والظواهر الاجتماعية. وما فتئ على المستوى الإعلامي يستخدم الوسائل التقليدية المتاحة من إذاعات وتلفزات وجرائد “وطنية”. ولا يخفى على أحد في مجال القضاء أن الأحكام تنطق باسم “جلالة الملك”، وأن القضايا تفتتح والجلسات ترفع باسمه ، وأن المغرب لا يتوفر على إدعاء عام أو محامي الشعب بل على وكيل للملك. كل ذلك وغيره ، يوحي للشعب بأن الملكية عامل التماسك الوطني …وضامن المحافظة على القيم والأصالة والعدل، وهو ما ينفيه الواقع المغربي.
ومازال هرم الاستبداد في المغرب يعتمد على هياكله القديمة المتجلية في “مقدم الحومة” ثم “الشيخ” فالقائد ثم العامل والوالي. وظاهرا ، يشكل الشيوخ والمقدمون همزة وصل بين الناس والإدارة “الحديثة” بينما هم عيون وآذان المخزن وجواسيسه ومخبروه الذين لا يكلون….