الإعلام المغربي بين العهد القديم والعهد الجديد .
فريد بوكاس ، صحفي باحث وناشط سياسي.
مند وعينا على هذه الدنيا ونحن نسمع نفس المصطلحات ونفس الألفاظ حتى غدت النشرات الإخبارية منذ الثمانينات لا تختلف عن مثيلاتها في يومنا هذا ونحن في القرن الواحد والعشرين ، وربما حتى مع بقاء نفس الأشخاص ونفس الوجوه التي خلدت خطاباتها العصماء في أذهاننا حتى صرنا لا نفرق بين عهد قديم أو عهد جديد .
إنه خطاب السياسات الرشيدة والحكيمة التي طبقت علينا في التعليم والصحة والعدل والثقافة وغيره في جميع المجالات ، خضعنا لها راضين مستسلمين لتصديقنا لمصطفى العلوي و… وغيرهم وهم يشيدون بمضامين الخطابات والخطوات التي سترفعنا إلى عنان السموات بين الأمم ، صدقنا الوعود بملايين مناصب الشغل ، صدقنا برنامج التقويم الهيكلي ، صدقنا الخصصة ، وإصلاح التعليم الذي دخلناه متفرنسين و خضناه مستعربين وأنهيناه متفرنسين . ومن فرط رشد تلك السياسة فقدنا رشدنا فلا وظيفة طلناها ولا ثقافة نلناها . لكن الغريب بعد هذا كله خروج نفس الأصوات لتصف ما قالت عنه حكمة ورشدا وتبصرا في السابق ، بعكس ذلك وتدعونا إلى نسيان عهد الرصاص وخنق الحريات ، إلى نسيان المفهوم القديم للسلطة ، إلى نسيان السياسات الفلاحية ، إلى نسيان السياسات الصناعية والمخططات الخماسية ، كل ذلك تم تغييره بسياسات أخرى جديدة قيل عنها أيضا أنها رشيدة وحكيمة.
فلا ندري أيهما أقرب إلى الرشد هل تلك السياسات التي نالنا منها نصيب أم تلك التي طبقتها علينا حكومات العهد الجديد أم تلك التي ستأتي بعد … المهم هو أن بعض هذه السياسات لم تكن كذلك .إن ما يمكن استنتاجه من هذا المثال أن الخطاب الإعلامي الرسمي ليس له علاقة بالإعلام ورسالة الإعلام وإنما هو مجرد طقس من الطقوس المخزنية التي تطبل وتزمر للديكتاتور ، كباقي الطقوس الأخرى ، بمعنى أن وظيفة الإذاعة والتلفزة والصحفيين ليست تقديم خبر وشرح أحداث وإنما تقديم طقوس شكلية لا غير.
فليس هناك فرق بين ارتداء الجلباب والطربوش الأحمر والبلغة الصفراء ، وبين المشاركة في الانتخابات والنوم في البرلمان ، وبين الانحناء والركوع في حفلات الولاء عفوا البلاء ، وبين قراءة نشرة إخبارية . كلها طقوس وكل بها أشخاص رسمت أدوارهم بشكل دقيق ، فلا يوجد فرق الزمن بين خبر الأمس وخبر اليوم إلا تغيير المكان ، فلا يمكن التفريق بين نشرة إخبارية في عهد الثمانينات ونشرة اليوم وإن اختلف المكان إلا أن المضمون واحد .
لقد تعود الناس على هذا الخطاب حتى أضحى الكثيرون لا يعيرون أي اهتمام له ولا يشاهد في الأخبار إلا حالة الطقس حيث عيون المغاربة مرتبطة بالسماء وحدها من يحدد مصائرهم وهي سبيل الرشد والهدى في الاقتصاد والسياسة معا ، وهي التي تبقي الناس مشدودين إلى الإذاعة والتلفزة المغربية ، أما النشرات الإخبارية فلا أعتقد أن أحدا يكترث بما تقدمه ، لقد صارت عند الناس كبعض خطب الجمعة التي تبدأ بآيات التقوى وتنتهي بالدعاء بالنصر والتمكين وبقول “اذكروا الله يذكركم وأشكروه على نعمه يزدكم” . فسماع هذا الدعاء يعد إيذانا بنهاية الخطبة يقوم على إثرها المصلون من نومهم لترصيص الصفوف.
فإذا كان البعض ينادي بالتخلص من البرتوكولات المخزنية – الملكية – التي فيها الإهانة للكرامة البشرية ، فإنه آن الأوان للتخلص من البرتوكلات المخزنية في الإعلام العمومي أيضا حتى تكتمل دائرة الإصلاح . لأن ميادين الإصلاح لا تنحصر في الوثيقة الدستورية وحدها لكنها في جميع المجالات ، والإعلام هو الوجه والمرآة الحقيقية التي تعكس مفهوم الإصلاح ، فإذا بقي الإعلام على حالته فلا أمل في الإصلاح .
وكفى من ترديد نفس تلك الأسطوانات القديمة بنفس الأسلوب الذي يثير الاشمئزاز أكثر من القبول . يسيء للدولة والشعب أكثر ما يحسن ، يقدم صورة قاتمة أمام العالم أكثر مما يزينها ، وكما تقول وصلة إشهارية لقناة المغربية (ورغم ذلك فهي تضاهي القنوات العربية ، كتعجبني كنتفكر البلاد ) ، بالفعل تفكرنا في الاستبداد وفي كل ما له علاقة به خاصة لمن يعيش في جو الحرية ممن يحنون ربما إلى رائحة المخزن .
لقد تغير العالم اليوم ولم تعد القنوات الرسمية مصدرا للأخبار والأحداث ، المواطن الآن تصله الأخبار قبل أن يرتد إليه طرفه ، و قبل أن تصل إلى أصحاب الحال ليغربلوها ويصبغوها ويقدموها في الحلة التي يريدون .
إنه واقع جديد يجب أن يتم التعاطي معه بشكل إيجابي ، ولا يجب ترك وسائل إعلامنا في نفس الأيادي مند عقود ، يجب تحريرها لأنها ملك للشعب وليس لهؤلاء ، وليس هجرانها هو الحل الأمثل ، لأنها في كل حال تستنزف أموالنا وتشوه صورتنا فإن كان لابد ، فلتغلق أو تخصخص حتى نتخلص من تبعاتها المادية والمعنوية .
وليس العيب اللجوء إلى قنوات أخرى لمعرفة أخبارنا لأنها رغم ما يقال عنها ورغم منعها من نقل أخبار المغرب إلا أنها تنقل جزءا من حقيقة أوضاعنا ،أحب من أحب أو كره ، ولأننا عجزنا عن إيجاد البديل .
عندما تكون لدينا قنوات متحررة من الطقوس المخزنية الملكية ، فإنها ستضاهي القنوات العربية الأخرى والصحافيون المغاربة ليسوا أقل كفاءة من غيرهم ، ويكفي النظر إليهم في القنوات المختلفة لمعرفة الفرق حين كانوا في التلفزة الوطنية.