الأسرة وتحديات القرن الحادي والعشرين
تعتبر الأسرة الحَجرُ الأساسُ في تكوين المجتمع ونشأته، ويمكننا أن نمثل الأسرة في المجتمع بالخلية داخل الجسم، فهي تعتبر الوحدة الأساسية المكونة للمجتمع، وتماما كالخلية البيولوجية في الجسم فالأسرة لها بنيتها المركّبة الخاصة بها ولها وظائفها الخاصة بها، وحيث إننا نعيش في زمن تغيرت الأوضاع العادية للمجتمع، فقد عرفت الأسرة أيضا تغيرا كبيرا في بنيتها ووظائفها وأدوارها كمؤسسة اجتماعية؛ كانت منذ عهد قريب المؤسسة الاجتماعية الأكثر استقرارا وتماسكا. لعل من أكبر وأهم هذه التغيرات التي مست الأسرة تحولها من أسرة ممتدة -تحوي بالإضافة للزوجين أقاربهما سواء الأصول والفروع- إلى أسرة نووية -مؤسسة أساسا من الزوجين وأبنائهما فقط-، وتغيرات أخرى سنعرّج على أهمها في مقالنا هذا بإذن الله.
كان نمط الأسرة المنتجة هو السائد في مجتمعاتنا قبل أن تغزونا أنماط عيش جديدة فرضت علينا بحكم انفتاحنا على النظام الاقتصادي الجديد وقبولنا به، فلقد كانت الأسرة قديما تعتمد على نمط معيشي يضمن للأسرة حاجياتها الأساسية البيولوجية منها والأمنية فقط. أما حاليا وبفعل الحداثة وتطور الحياة صارت احتياجات ومتطلبات الأسرة تكبر شيئا فشيئا، فلم يعد بمقدور الأسرة الكبيرة تلبية كل هاته المتطلبات المتعددة والكثيرة لمجموع أفرادها، مما ساهم بشكل كبير في بداية ظهور صراعات أدت فيما بعد لتفكك هذه الأسر الكبيرة وبداية ظهور الأسر النووية، هاته الأخيرة اهتمت بشكل كبير على تلبية حاجيات أفرادها المادية غافلة بذلك على واجبها التربوي تجاه أبنائها، -الجانب التربوي- والذي كانت الأسرة الممتدة تهتم به وتقوم به بكفاءة عالية.
|
ومع استمرار التطور الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي ازداد حجم المتطلبات وتشعّبت، مما أدى بأفراد المجتمع للعزوف عن الزواج هروبا من هاته المتطلبات التي تزيد يوما بعد يوم، فمن كان يعيش في الثمانينيات والتسعينيات لم يكن عنده امتلاك هاتف ذكي أو سيارة أو فراش أو أدوات منزلية ضروريا، عكس زماننا الآن حيث صار امتلاك مثل هاته المنتجات والأدوات من الضروريات، وحتى من لم يعزف تماما عن الزواج فقد لجأ إليه متأخرا بغية إعداد كل متطلبات الزواج من العرس والمنزل والفراش، مما ساهم في ظهور فرق مهول في السن بين الأجيال، فمن تزوج في سن الأربعين مثلا سيكون الفرق في السن بينه وبين ابنه أكثر من أربعين سنة، وعندما يكون مثل هذا الفرق في السن بين الآباء والأبناء تظهر عدة مشاكل وتشنجات بين أفراد الأسرة، مما يهدد بنشوء مشاكل في التواصل بين الآباء والأبناء ينشأ عنه عدم استقرار في الأسرة ككل.
أما القسم الأكثر براغماتية وعقلانية من أفراد المجتمع فقد لجؤوا للزواج بزوج أو زوجة عاملة، وذلك للتعاون على هاته المتطلبات المادية التي أصبح من شبه المستحيل أن يتمكن أي شاب أو شابة عصاميين من توفيرها منفردا نظرا لمحدودية الدخل وغلاء الأسعار الذي يزيد يوما بعد يوم، لكن هذا النوع من الأسر -الذي يكون فيه الزوج والزوجة يعملان خارج البيت- واجه أكبر تحدَ فيما يخص الوقت المخصص لرعاية وتربية الأبناء، فلأول مرة في التاريخ البشري لم يعد للأبوين المشغولين في عملهما خارجا الوقت لتربية أبنائهم، وحيث أن الأسرة هي من تحمل على عاتقها تكوين السلوكيات الحميدة وغرس القيم الحسنة عند الطفل وكذلك تكوين شخصية الأبناء وسقل مهاراتهم وضبط انفعالاتهم وتنمية مواهبهم وتطويع طاقاتهم، ليخرجوا للمجتمع مسلحين بقيم وكفاءات تأهلهم ليكونوا فاعلين إيجابيين في مجتمعاتهم، لا مجرد تابعين وأدوات في يد غيرهم. فبفعل انشغال الوالدين عن القيام بهاته التربية صار الأبناء أكثر عرضة للضياع والانحراف والجنوح، خصوصا وأن الجو الذي يكون سائدا في الأسرة التي يعمل فيها الوالدين خارجا يكون جوا مليئا بالصراعات على أقل شيء بحكم تداخل السلط والمسؤوليات داخل البيت.
من أكبر التحديات التي تهدد استقرار واستمرار بقاء الأسرة في قرننا الحالي كذلك؛ سهولة إنشاء علاقات عاطفية خارج مؤسسة الزواج، فلقد أصبح من السهل على كل من الزوج أو الزوجة ربط علاقة ما مع أي شخص عبر العالم بكبسة الزر، وهو ما يثير الخوف الشديد على التماسك الأسري بفعل تقنيات التواصل الحديثة وتغلغلها في حياتنا الاجتماعية، فلأول مرة في التاريخ وبفعل هذه التقنيات صار إنشاء علاقات عاطفية خارج إطار الزواج أمرا سهلا وسريعا وجذابا، مما يهدد العفة داخل الأسرة ويطرح مشكل انعدام الثقة والشك بين أعمدة ترابط الأسرة “الزوج والزوجة”.
|
كما أن وسائل الإعلام الحديثة وثقافة إغراء الصورة والفيديو التي أصبحت معاشا يوميا للناس جميعا وللشباب خصوصا ساهمت بشكل كبير في تشويه الذوق العام للمجتمع فيما يخص معايير الجمال والقبول الاجتماعي للجسد، خصوصا لذا الرجال الذين صارت معايير الجمال عندهم أقل ما يقال عنها بأنها متطرفة، فهم يريدون نسقا من الجمال نادرا ما يجتمع في جسد امرأة في الواقع؛ وذلك راجع كما قلنا لتعرضهم المستمر لجمال أنثوي اصطناعي ومزيف في وسائل الإعلام المختلفة.
ومثل هذا التشرب لهذه المعايير يؤخر كثيرا قرار الزواج بالنسبة للرجل، وعند المتزوج يخلق عنده شعورا مستمرا من عدم الرضا بمستوى جمال زوجته، مما يجعل المرأة تعاني من مسألتين خطيرتين الأولى تتجلى في ضرورة اهتمامها المبالغ فيه بجسدها وطريقة عرضه للرجال في الشارع والعمل علّها تحظى بفرصة لإثارة اهتمام رجل راغب في الزواج، والثانية وهي الأكثر صعوبة عليها وتتمثل في ضرورة استمرارها في الاهتمام بجسدها بالرياضة واستعمال مواد التجميل كي تبقي على زوج يرى في الشارع وفي وسائل الإعلام من مغريات يوميا لا يراها في بيته إلا نادرا. وهذا السباق الملتهب الذي تخوضه المرأة للحفاظ على زوجها وعلى تماسك أسرتها “والذي لم تكن ملزمة به المرأة في السابق” لا يلغي أبدا مسؤولياتها الأخرى من التربية والرعاية والعمل، الشيء الذي يثقل كاهلها ويهدد بانهيارها في أي لحظة تحت كل هذه الضغوطات التي ترزح المرأة العصرية تحتها.
إذا وكما رأينا فتكوين وضمان استقرار الأسرة في زماننا الحالي يعد تحديا كبيرا، فالأسرة في القرن الحادي والعشرين بناء هش يعاني من كثير من الزلازل التي تهدد سلامته وتماسكه، فالظروف الاقتصادية التي فرضت نفسها على معيش الناس حدّت بشكل كبير من مستويات الزواج في المجتمع، كما أن النمط الاستهلاكي الحديث والغارق في التركيز على الكماليات نسف اجتماع الأسر داخل عائلة واحدة تتعاون وتتكامل على تأدية واجباتها لتحل مكانها أسرة نووية صغيرة -مكونة من زوجين كبيرين في السن- ومشغولة في تـأمين المتطلبات المادية للأسرة فقط.
ونظرا لتضخم متطلبات العيش لجأت المرأة للخروج إلى سوق العمل تاركة وراءها فراغا مهولا سيكون له ما بعده من آثار على شخصية الأبناء، كما أن انتشار وسائل الإعلام والتواصل زاد من فرص تفكك الأسر نظرا لسهولة إنشاء أحد الزوجين علاقات عاطفية خارج إطار الزواج، كما أن الانتشار الواسع لمعايير الجمال المصطنعة عبر هذه الوسائل صعّب كثيرا على المرأة والزوجة مهمتها داخل البيت وخارجه وألزمها بواجبات جديدة لم تكن ملزمة بها النساء في الأجيال السابقة من اهتمام بالمظهر والجمال الخارجي بغية الحفاظ على الزوج وعلى تماسك الأسرة.
المصدر : الجزيرة نت