مغرب التناقضات …
بقلم : فريد بوكاس
يبقى المتتبع للشأن العام للمغربي مندهشا بحجم التناقضات الصارخة التي يعرفها بلدنا بين مغربين: مغرب المشاريع الكبيرة، مغرب ميناء طنجة المتوسط، مغرب الطرق السيارة، مغرب القطار الفائق السرعة والسيارات الفخمة والمهرجانات العالمية، مغرب الفيلات والقصور الفخمة والمنتجعات السياحية بمسابحها الضخمة وملاعب الكولف الشاسعة، …. و مغرب يحتل رتب متدنية في مؤشر التنمية البشرية تتراوح بين 126 و 130 خلال السنوات الأخيرة ، مغرب يعاني ثلثه من حالة فقر، و يعاني شبابه من حالة بطالة بنيوية، مغرب لا يتعدى معدل التمدرس فيه 4،4 سنة في حين هذه النسبة تتجاوز 12 سنة في دول أخرى، مغرب تضطر بعض مواطناته للولادة أمام أبواب المستشفيات ويحرم العديد من حقهم في الخدمات الصحية، مغرب رهن سيادته الغذائية بتقلبات أسعار المواد الأساسية العالمية : نستورد ما بين 40 و 60 في المائة من حاجياتنا من القمح، مغرب وضع مصيره في الميدان الطاقي بيد شركات عالمية و محلية لا يهمها إلا مراكمة أكبر قدر من الأرباح على حساب الأغلبية المجبرة على أداء مصاريف فواتير الكهرباء، التي لم تتوقف أثمنتها عن الارتفاع ……
أعتقد أن التناقضات الصارخة وحالة الظلم التي نعيشها في المغرب كما هو الحال في العديد من بلدان منطقتنا تجد تفسيرها كذلك في تقارب كارثي بين ثلاثة ظواهر مجتمعة ومركبة، يستند و يغدي كل واحد منها الآخر : الاستبداد السياسي، الليرالية الاقتصادية والخوصصة والتوجه نحو التصدير و أشكال الاستعمار الجديد .
وقد عرف المغرب خلال النصف الثاني من التسعينيات اتساعا نسبيا لهامش الحريات السياسية، اتساع فرضته ترتيبات تحويل السلطة للملك الجديد والظرفية العالمية الجديدة من خلال ما سمي “النظام” العالمي الجديد بسقوط حائط برلين وانتهاء الحرب الباردة في شكلها السابق. لكن العامل الأساسي، في اعتقادي، الذي ساهم في انتزاع تلك المكتسبات على صعيد الحريات السياسية هو إصرار وتضحيات أجيال من خيرة بنات وأبناء الشعب المغربي، مناضلات ومناضلين لم يترددوا بالتضحية بشبابهم وامتيازاتهم وحتى أرواحهم لمواجهة آلة القمع والترهيب الذي فرضته ديكتاتورية الحسن الثاني منذ السبعينيات.
لكن هذا الانفراج النسبي لم يمنع من تواصل الاستبداد السياسي في صيغته الجديدة عبر ما سمي بداية هذا القرن بالمفهوم الجديد للسلطة مع تراجع ملحوظ و نوسطالجيا رجالات السلطة للمفهوم “القديم” عبر الاختطافات و الاستنطاقات تحت التعذيب وتلفيق التهم خاصة بعد العمليات الانتحارية الهمجية التي عرفتها مدينة الدار البيضاء في 16 ماي 2003.
شكلت حركة 20 فبراير والمسلسل الثوري الاستثنائي الذي قاده شباب منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط منذ استشهاد البوعزيزي نقطة تحول تاريخيا فرضت على نظام الاستبداد القيام ببعض التراجعات التي تبين فيما بعد أن معظمها كان تكتيكيا ويهدف بالأساس إلى امتصاص غضب الشارع آنذاك. وقد تأكد هذا التكتيك بفتور ثم موت حركة 20 فبراير، حيث تعرض العديد من المناضلات و المناضلين لحملة انتقام ممنهجة، شملت تلفيق التهم و الزج بهم في السجون و كذلك عمليات الطرد من العمل والتشريد.
و تجدر الإشارة أن عمليات الانتقام التي تعرض لها المناضلات و المناضلون لم تعدٌ أن تكون جزءا بسيطا من عمليات انتقام واسعة و شاملة تعرض لها المواطنون بعد تراجع ثم موت حركة 20 فبراير، فتم هدم المنازل التي أغلق الحاكمون العيون حين بنائها، و استعادت آلة الاستبداد المباشر أنشطتها المفضلة بالتنكيل بمعظم الأشكال الاحتجاجية التي نظمتها فئات واسعة من الشعب للتعبير عن سخطها و المطالبة بحقوقها(الأساتذة المتدربون، طلبة الطب، عمال مغرب ستيل، نضالات السكان للدفاع عن حقهم في السكن الكريم بحي المطار و كيش الودايا مثلا ….)
“هل أنتم حكومة أم عصابة ؟” هكذا خاطب محمد عبد الكريم الخطابي اول حكومة عينها الملك محمد الخامس برئاسة مبارك البكاي لهبيل بعد الاستقلال الشكلي. كم تنطبق هذه المقولة الشهيرة لمحمد عبد الكريم الخطابي على حالنا اليوم بحيث أن الحاكمين اليوم يخيروننا عبر خدامهم في الحكومة بين الخنوع والقبول بالإجهاز على ما تبقى من مكتسباتنا الاجتماعية، وبين ما يدعونه الفوضى باستعمال فزاعة التقتيل و حرب الإبادة الجماعية الدائرة في سوريا بقيادة و مباركة الدول الغربية أو الحرب التي تقودها السعودية ضد الشعب اليمني.
وقد جاء مقتل محسن فكري نهاية شهر أكتوبر 2016 ليؤكد أن آلة الطحن الاستبدادية لم تكسر بعد، وأن مهمة التخلص منها بشكل نهائي ما زالت ملقاة على عاتقنا. كما أن الاحتجاجات التي مازالت متواصلة في مدن الشمال أكدت أن طيف عبد الكريم الخطابي ما زال يطارد الحاكمين كرمز للنضال ضد كل أشكال الاستعمار والتبعية التي مازالت مستمرة حتى اليوم خاصة في شكلها الاقتصادي.
و بالارتكاز على طاحونة الاستبداد واستحواذ المخزن على القرار السياسي انتهجت الطبقات الحاكمة بالمغرب منذ الاستقلال الشكلي خيارات اقتصادية ليبرالية تسارعت وتيرتها بتطبيق برنامج التقويم الهيكلي بداية الثمانينيات وصدور قانون الخوصصة سنة 1989 و إحداث وزارة الاقتصاد و الخوصصة ! و من أهم هذه الخيارات الاقتصادية المملاة من طرف المؤسسات المالية العالمية كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي نجد : انسحاب الدولة من الخدمات العمومية كالتعليم والصحة، خوصصة المرافق والمؤسسات العمومية، توجيه الاقتصاد خاصة الفلاحة نحو التصدير، فتح السوق المغربية أمام المنتجات الأجنبية، تراجع ثم حذف كل أشكال الدعم للمواد الأساسية (بنزين، قمح، سكر، زيت…). كما عمقت الاتفاقيات النيوكولونيالية للتبادل “الحر” التي وقع عليها المغرب منذ التسعينيات هذه التوجهات الاقتصادية.
بعد أزيد من 35 سنة من تطبيق نبيه لهذه الوصفات اللبرالية، يمكن الجزم اليوم بفشلها الذريع حتى في الأهداف التي سطرتها وعلى رأسها ضبط المؤشرات الماكرو اقتصادية وتحقيق نسب نمو اقتصادية مرتفعة. في حين كان لهذه التوجهات وقع كارثي على المستوى الاجتماعي وعمق تبعيتنا الاقتصادية وضرب ما تبقى من سيادتنا. ويعد قطاع المحروقات مثالا صارخا للفشل الذريع لتلك السياسات، فالحصيلة اليوم هو إغلاق لاسمير، المصفاة الوحيدة التي يتوفر عليها المغرب وتشريد العمال و عائلاتهم بعد ما تسبب في إفلاسها من استفادوا من خوصصتها عبر تهريب أرباحهم وخسارة خزينة الدولة لأكثر من 40 مليار درهم. كما أن تحرير أثمنة الوقود الذي انتهجته حكومة بنكيران السابقة نزولا عند رغبة الحاكمين الفعليين وتوصيات صندوق النقد الدولي فتح الباب أمام لوبي المحروقات لفرض زيادات متتالية في الأثمنة تتناقض مع تراجع أثمنة البترول في السوق العالمية، زيادات لم توقفها إلا تحركات بعض المواطنين خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي مما دفع هذه الشركات إلى التراجع نسبيا عن تلك الزيادات. تجدر الإشارة إلى أن تحرير أثمنة الوقود وحتى إغلاق شركة لاسمير سمح لشركات المحروقات ومن بينها شركة أفريقيا للوزير “الدائم” أخنوش بمراكمة المزيد من الأرباح.
إن اعتماد النيوليبرالية الاقتصادية من طرف الحاكمين عبر تحرير القطاعات العمومية وخوصصتها يرجع أساسا لاستفادتهم المباشرة من هذه التفويتات ومواصلة بل ومضاعفة عمليات التراكم عبر السلب التي نهجتها منذ الاستقلال الشكلي. كما أن معظم العائلات النافذة اليوم بالمغرب استفادت من تفويتات الشركات والقطاعات العمومية الأكثر مردودية بالارتكاز على قربها من مركز القرار والاستبداد السياسي. تقول ديانا ديفس عن قسم الجغرافيا والبيئة في جامعة تكساس الأمريكية : “لقد تم اعتماد النيوليبرالية بحماس، و لو بانتقائية، من طرف النظام الملكي المغربي وجزء كبير من نخبة رجال الأعمال على العكس من المعارضة التي واجهتها النيوليبرالية في أي مكان آخر “. ويرجع ذلك في جزء منه إلى حقيقة أن العائلة المالكة ورعيتها استفادت كثيرا من جوانب معينة من إعادة الهيكلة النيوليبرالية مثل الخوصصة، كما يرجع إلى أن عددا من الاصلاحات النيوليبرالية ساهمت في نزع الطابع السياسي على المجال العام في المغرب و تعزيز الأهداف السياسية للنظام” ديفيس، 2005 . كما دأب الحاكمون في المغرب على تبني الحل السهل والكسول باللجوء للاستدانة من أجل سد العجز المالي الذي نتج عن خياراتهم الفاشلة. وقد وصل الدين العمومي المغربي أرقاما قياسية اليوم بأكثر من 800 مليار درهم.
كما لا يتردد الحاكمون ونخبتهم المتواطئة في المزايدة كل ما أتيحت لهم الفرصة بشعار الوطنية و دفاعهم عن المغرب. كما لا يترددون في استعمال هذه الورقة ضد كل من يفضح ادعاءاتهم وظلمهم ومخططاتهم للاستيلاء والسلب ليتم نعته بالخائن والعميل وصاحب أجندة خارجية ، لا يترددون في المزايدة بوطنيتهم وهم الذين يودعون معظم أموالهم في بنوك سويسرا وفرنسا وأمريكا والفراديس الجبائية وهو ما أكدته أوراق باناما. يتزايدون بوطنيتهم وهم من يمتلكون عقارات ومساكن ثانوية في بلدان أوربا وأمريكا، بل منهم من تعد تلك المساكن هي الرئيسيّة، أما إقامتهم في المغرب فهي ثانوية مادامت تسمح لهم بمراكمة الأموال. يتزايدون بوطنيتهم وهم لا يترددون بإشعار جوازاتهم الحمراء من أجل الإفلات من المساطر البيروقراطية والمهينة التي تفرضها الدول “الغنية” على المواطنات والمواطنين المغاربة للحصول على تأشيرة الدخول لتلك البلدان.
وطنيتهم هي وطنية موسمية، تتجسد مثلا في حشد الفقراء من شعبنا ونقلهم إلى العاصمة للاستعراض في مسيرات يجهلون أهدافها، في مسيرات ضد بانكيمون أو الحزب الشعبي الاسباني ليتم بعد ذلك استقبالهم واستضافتهم و كأن شيئا لم يكن. وطنيتهم تتحالف مع مستعمرينا القدامى والجدد من أجل “غزو” إفريقيا والاستيلاء على خيراتها والسيطرة على قطاعاتها الحيوية من أبناك و معادن بالضبط كما فعلوا بقطاعاتنا الحيوية بدعوى مغربتها.
Leave a Reply