شهد المغرب في الأشهر الماضية أكبر حراك تعليمي لم يشهد تاريخ المغرب مثيلا له على الإطلاق، والذي كانت شرارته محاولة وزارة التربية الوطنية تمرير نظام أساسي فيه حيف كبير للشغيلة التعليمية وجاء عكس كل انتظاراتها وآمالها.
هذا الحراك التعليمي سيكون مناسبة جيدة للوقوف على أزمة التعليم في المغرب وأبعادها وجذورها، لاسيما أن الغالب على تناول قضية التعليم هو التعاطي الإعلامي السطحي والتجزيئي القطاعي، الذي يحصر الأزمة ويختزلها في مراسيم وأنظمة وأجور وميزانيات وإمكانيات، في حين يتم تجاهل أبعادها السياسية الكبرى.
كما هو معروف عبر تاريخ الأمم والشعوب أن الوظيفة التعليمية هي الوظيفة التي عبرها تتم صناعة الإنسان وبناء شخصية الفرد داخل المجتمع، كيفما كانت الجهة الساهرة على هذه الوظيفة الحساسة، دولة أو مجتمعا، يبقى رهانها الأساس هو إدماج الفرد في المجتمع وإعادة تشكيله. بهذه الوظيفة تستطيع الأمم والشعوب الحفاظ على استمرارها وتوازنها وتتجاوزه لبناء نهضتها وتقدمها.
بناء على هذه الغاية الأولى للوظيفة التعليمية، يبقى أول سؤال مؤطر لهذه الوظيفة والمحدد الأكبر لملامح أي نظام تعليمي كيفما كان هو:” أي نموذج للإنسان نريد أن نخرج؟”
فهل الغاية من التعليم هو بناء الشخصية الحرة المستقلة، وتحرير الوعي واستنهاض الهمم، وتعليم الناس كيف تفكر، وتربيتها على قيم المجتمع، وتمكينها من الآليات التي تمكنها من مجابهة العقبات في الحياة وإيجاد حلول لكل ما استشكل عليها؟ هل المنتظر من هذه الوظيفة تفجير طاقات وملكات الإنسان وإخراج أحسن ما فيه لينفع به ذاته وغيره؟ أم أن الغاية من التعليم هو تخريج إنسان مقولب الفكر مسلوب الإرادة والحرية، يجهل غايته وعاجز عن طرح الأسئلة، إنسان بدون هوية ولا شخصية، رأسماله هو ما تعلم من تقنيات وما حفظ من دروس نظرية، إنسان معزول عن واقعه فما بالك أن يجد حلول لأزماته، إنسان خارج التاريخ والجغرافيا.
هنا بالفعل يمكن أن نتحدث عن جذور أزمة التعليم في المغرب، فالتعليم في المغرب انعكاس للجهة التي تحتكر تدبيره والإشراف عليه وهي الدولة المغربية، وهنا يمكن أن نفصل في ملامح أزمة التعليم في المغرب وجذوره.
نظام تعليمي استعماري بالرغم من أن المغرب نال الاستقلال في منتصف القرن الماضي إلا أنه لم يتحرر من التبعية للاستعمار الفرنسي، فما زالت مناهجه الدراسية تنسخ وتنقل من المناهج التعليمية الفرنسية، وما يزال المغرب يعتمد لغة المستعمر في التلقين والتعليم، فكيف ننتظر من هذا التعليم بناء شخصية مستقلة وما يزال أساتذته يخاطبون التلاميذ والطلبة ويعلمونهم بلغة أجنبية، وعن أي تلقين نتحدث والمادة المعرفية تلقن بلغة ليست لغة الشعب ولا لغة وطنية وتفرض فرضا على التلاميذ والطلبة، كما لو أننا شعب بدون لغة، أو أن لغاتنا الوطنية عاجزة عن أن تكون لغة تلقين وتعليم، وكما لو أن فرنسا هي التي ما تزال تتحكم في المغرب، فأين السيادة اللغوية؟ وأين الاستقلالية؟ وأي جودة في التحصيل ننتظر بالتعليم بلغة ليست لغة التلاميذ والطلبة المغاربة؟
نظام تعليمي استبدادي
إن أول دلالة من دلالات استبدادية النظام التعليمي المغربي هو أن يتم تعيين رمز من رموز الاستبداد في المغرب على رأس الوزارة الوصية، فالكل يعلم من هو وزير التربية الوطنية الحالي وسوابقه الاستبدادية، فهو وزير داخلية سابق كان من المسؤولين عن السبت الأسود بسيدي إيفني حيث تم ارتكاب تجاوزات خطيرة في حق الساكنة خلال قمع الاحتجاجات التي عرفتها المدينة. فأحداث السبت الأسود لا يمكن أن تمحى من الذاكرة وستظل تلاحق وزير التربية الحالي أينما حل وارتحل. وفي السنوات الأخيرة تركز البعد الاستبدادي الرمزي أكثر في تعيينات مسؤولي الوزارة الوصية، فقبل الوزير الحالي تم تعيين حصاد الذي كان وزيرا للداخلية كذلك على رأس وزارة التربية الوطنية، ما يعطي انطباع عن كون وزارة التربية الوطنية أصبحت وزارة سيادية، وأن مسؤوليها لن يكونوا إلا نخبا تكنقراطية جيء بها من دهاليز وزارة الداخلية حاملة معها رصيدها من الضبط والقمع والتحكم لتطبيقه على قطاع التربية الوطنية. فغدا من المعتاد الآن أن نرى مظاهر قمع الأساتذة وضربهم وسحلهم خلال مظاهراتهم السلمية، وهذا لا يشكل إهانة للأساتذة فقط بل وصمة عار على جبين الدولة وإهانة للمجتمع الذي قبل بإهانة أستاذه ومربيه. كما أن مشاهد قمع الأستاذ لاغية لكل النصوص التي قد يلقنها التلميذ في المدرسة عن الحرية والكرامة والديمقراطية، فالفعل أبلغ من القول.
ما سبق ذكره يفسر لنا كذلك منطق تدبير الوزارة لهذا الملف الحساس الأحادي الجانب الذي يلغي الأستاذ من المعادلة، ولا أدل على ذلك من طريقة إعداد النظام الأساسي الذي لم يتم إشراك الأستاذ في صياغته. كما لا يفوتنا التذكير بالشكل الذي تم فيه ابتلاع أغلب النقابات من طرف الدولة من خلال إغرائها بالمناصب والدعم العمومي، حيث أصبحت محابية للدولة وأدارت ظهرها للشغيلة التعليمية فلم تعد لها شرعيتها ولا مصداقيتها، ما جعل الأساتذة يبتكرون مؤسسات بديلة تمثلهم وينتظمون في إطارها وهي التنسيقيات.
نظام تعليمي طبقي
إن نظاما تعليميا مبنيا على ازدواجية لغوية، ومبنيا على إفساد المدرسة العمومية وتدعيم المدرسة الخصوصية، وفاسحا للمجال أمام مدارس البعثات، لن يكون إلا تعليما طبقيا يعيد تكريس الطبقية في المغرب.
فهذا التعليم يضع فوارق كبيرة بين طبقة ضيقة تضم أبناء الأسر التي تربي أبناءها باللغة الفرنسية، والتي لها إمكانيات لتدريس أبنائها بالمدارس الخصوصية ومدارس البعثات، وبين طبقة شاسعة من أبناء الشعب الذين لا يعترفون باللغة الفرنسية لغة لهم فما بالك أن تفرض عليهم التعلم عبرها، كما يعدمون الامكانيات للتمدرس بالمدارس الخصوصية.
إن نظاما تعليميا يفرق بين أبناء الوطن الواحد ليس نظاما عادلا، هو نظام يكرس الطبقية ويوسع من الفوارق بين فئاته، ففي الوقت الذي انطلقت فيه عملية تعريب التعليم في ثمانينيات القرن الماضي، استطاعت فئات عريضة من المجتمع من الترقي الاجتماعي، وفي تلك المرحلة كان التعليم الخصوصي نادرا ومحدودا جدا، أما الآن فقد تنامت المدارس الخصوصية على حساب المدارس العمومية، وأصبح التمكن من اللغة الفرنسية معيارا للاستكمال التعليم وولوج المناصب العليا بدل أن يكون التحصيل الدراسي والكفاءة العلمية هي المعيار في ذلك.
وكانت من المقولات الشائعة التي سمعناها عن آبائنا وأجدادنا مقولة: “لولا أبناء الفقراء لضاع العلم”، أما اليوم فقد انقلبت الآية وأصبحت “لولا أبناء الأغنياء لضاع العلم”.
نظام تعليمي استغلالي تعطيلي
من مظاهر فشل النظام التعليمي المغربي هو أنه قلما يستفيد من خريجي مؤسساته العليا من أطباء ومهندسين وخبراء، ولطالما عرف المغرب بظاهرة هجرة الأدمغة، فالمغرب يستثمر ميزانيات ضخمة في تخريج النخب التقنية لكنه لا يوفر بتاتا الفضاء المناسب لاستثمارها في نهضة البلد، فلطالما عانى خريجو المدارس العليا ودكاترة المغرب من انسداد الآفاق المهنية بعد التخرج، وفي أحيان أخرى يتعرضون للاستغلال من طرف رجال الأعمال بأجور هزيلة وظروف عمل مزرية، ما يجعل التفكير في الهجرة خيارا أمثل لهم، حيث يجدون في الخارج بيئات حاضنة لهم وظروف أحسن للإنتاج العلمي والتفوق المهني.
وبهذا نجد أن النظام التعليمي المغربي يصرف أموالا طائلة في تخريج نخب تقنية إما أن تكون مستغلة من طرف الفاعل الاقتصادي المحلي بظروف مزرية أو تكون هدية مجانية للدول الأجنبية تستفيد من خبراتها دون أن تصرف درهما واحدا على تكوينها وتعليمها.
ومن جهة أخرى تظل نسبة توظيف خريجي الجامعات المغربية ضئيلة جدا، فنسب كثيرة من حاملي الشواهد العليا في المغرب يختارون آفاقا مهنية مغايرة لتخصصاتهم الدراسية، فكم منهم يختار التجارة أو مهنا حرة وحرفا معينة من أجل كسب قوت اليوم، فالعديد من التخصصات الجامعية آفاقها المهنية محدودة أو حتى منعدمة.
نظام تعليمي تجهيلي
يكفي هنا أن نعرف أن المغرب من البلدان التي ما تزال تعشش فيه الأمية، فرغم الجهود المبذولة ورغم تراجع نسبتها في العقود الأخيرة ما تزال نسبة الأمية تحقق أرقاما مهمة، حيث تبلغ نسبة 24 في المئة حسب تقرير للبنك الدولي سنة 2021، أي حوالي ربع ساكنة المغرب لا تجيد القراءة ولا الكتابة، ناهيك عن نقاش جودة التعلمات، فحوالي 30 في المئة من التلاميذ الذين يجتازون المرحلة الابتدائية غير متمكنين من الكفايات الدنيا من القراءة والكتابة والحساب، ناهيك عن كون بعض الاحصائيات تشير لكون ثلث التلاميذ هم من يصلون لمستوى الثانية باكالوريا من عموم التلاميذ الذين يلجون الأقسام الدراسية، وأن نسبة%13 منهم من يحصل على شهادة الباكالوريا.
للأسف كما أوردنا سابقا فأغلب مناهجنا الدراسية مستوردة ومنسوخة من مناهج أجنبية، ناهيك عن كونها تستثمر أكثر في ما هو تقني، وتغرق في الحشو وما هو نظري، وغير مرتبطة بالواقع وبخصوصياتنا التاريخية والحضارية، سواء تعلق الأمر بالعلوم التقنية أو العلوم الإنسانية.
العلوم التقنية: تدرس بالفرنسية، ولا يتم تدريس ماهيتها والغاية منها وطرق الاستفادة منها وتوظيفاتها في الحياة اليومية، فكم من تلميذ ما يزال يجهل الحد الأدنى عن جسمه ووظائفه، كما يجهل منطق اشتغال العديد من الآلات والتجهيزات التي نستعملها كل يوم.
العلوم الإنسانية: طالها الكثير من الحيف وكانت ضحية مقص الرقابة الذي يختار الدروس التاريخية والنظريات الفلسفية والاقتصادية التي لن تساعد في تحليل واقع ولا تغييره، كما تم فصل الحقول المعرفية عن بعضها (فصل التاريخ عن الجغرفيا، فصل الاقتصاد عن السياسة، وفصل الفلسفة عن كل هذه العلوم) وفصلها كذلك عن الواقع. وقد كان لنا مقال سابق تحدثنا فيه عن أهمية العلوم الإنسانية وكيف تم تهميشها في منظومتنا الدراسية.
لا إصلاح تعليمي دون إصلاح سياسي
كما سبق وأن أشرنا أن النظام التعليمي في المغرب انعكاس للنظام السياسي الذي يحتكر تدبير هذا الملف الحساس، فالمغرب ما يزال تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، كما أن الاستبداد ما زال يعشش في المغرب، بالإضافة لكون النظام السياسي يحابي أصحاب الشركات ويخدم مصالحهم، فزواج المال والسلطة يعمل على إعادة إنتاج الطبقية في المغرب وتفاقمها واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، من خلال جعل التعليم أداة لتوريث الثراء والفقر على حد سواء.
إن جذور أزمة التعليم في المغرب لا تخرج عن ثلاثية الاستعمار والاستبداد والاستبلاد، فلا سبيل لإصلاح النظام التعليمي في المغرب دون إصلاح سياسي يتحرر من هذا الثلاثي.